فصل: بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ:

قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (وَأَقَلُّ مَا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ إذَا قَصَدَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) وَفَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِمَشْيِ الْأَقْدَامِ وَسَيْرِ الْإِبِلِ فَهُوَ الْوَسَطُ؛ لِأَنَّ أَعْجَلَ السَّيْرِ سَيْرُ الْبَرِيدِ، وَأَبْطَأُ السَّيْرِ سَيْرُ الْعَجَلَةِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى التَّقْدِيرُ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ كُلُّ بَرِيدٍ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِيمَا دُونَ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ»، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي قَوْلٍ: التَّقْدِيرُ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَفِي قَوْلٍ: التَّقْدِيرُ بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا لِحَدِيثِ مُجَاهِدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ السُّوَيْدَاءَ فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُ بِهَا، فَقَالَ: كُنَّا إذَا خَرَجْنَا إلَيْهَا قَصَرْنَا، وَمِنْ السُّوَيْدَاءِ إلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، وَقَالَ: نَفَاهُ الْقِيَاسُ لَا تَقْدِيرَ لِأَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} الْآيَةَ، فَإِثْبَاتُ التَّقْدِيرِ يَكُونُ زِيَادَةً وَلَكِنَّا نَقُولُ: ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْمُرَادَ السَّفَرُ، وَقَدْ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} وَالْخَارِجُ إلَى حَانُوتٍ أَوْ إلَى ضَيْعَةٍ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا، فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ التَّقْدِيرِ لِتَحْقِيقِ اسْمِ السَّفَرِ.
وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِحَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا» مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَكَلِمَةُ فَوْقَ صِلَةٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} وَهِيَ لَا تُمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ لِغَيْرِهِ بِدُونِ الْمَحْرَمِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ السَّفَرِ لَا تَنْقُصُ عَمَّا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ هَذِهِ الرُّخْصَةِ فِيهَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ التَّخْفِيفَ بِسَبَبِ الرُّخْصَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَمَعْنَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَحْمِلَ رَحْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ وَيَحُطُّهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يَحْمِلُ رَحْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي إذَا كَانَ مَقْصِدُهُ يَحُطُّهُ فِي أَهْلِهِ، وَإِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَحْمِلُ رَحْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَيَحُطُّهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ، فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْحَرَجِ، فَلِهَذَا قَدَّرْنَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَلِهَذَا قَدَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِثَلَاثِ مَرَاحِلَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ مِنْ السَّفَرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرْحَلَةٌ وَاحِدَةٌ خُصُوصًا فِي أَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قُدِّرَ بِيَوْمَيْنِ وَالْأَكْثَرِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَأَقَامَ الْأَكْثَرَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَقَامَ الْكَمَالِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ إذَا بَكَّرَ وَاسْتَعْجَلَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَصَلَ إلَى الْمَقْصِدِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأَقَمْنَا الْأَكْثَرَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَقَامَ الْكَمَالِ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّقْدِيرِ بِالْفَرَاسِخِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطُّرُقِ فِي السُّهُولِ وَالْجِبَالِ وَالْبَحْرِ وَالْبَرِّ، وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ بِالْأَيَّامِ وَالْمَرَاحِلِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِمْ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، فَإِذَا قَصَدَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَصَرَ الصَّلَاةَ حِينَ تَخَلَّفَ عُمْرَانُ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُ مَادَامَ فِي الْمِصْرِ فَهُوَ نَاوِي السَّفَرِ لَا مُسَافِرٌ، فَإِذَا جَاوَزَ عُمْرَانَ الْمِصْرِ صَارَ مُسَافِرًا لِاقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِعَمَلِ السَّفَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ خَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ يُرِيدُ الْكُوفَةَ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إلَى خُصٍّ أَمَامَهُ فَقَالَ: لَوْ جَاوَزْنَا ذَلِكَ الْخُصَّ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ: (وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ أَقَامَ أَرْبَعًا صَلَّى أَرْبَعًا وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَخَرَجَ مِنْهَا إلَى مِنًى فِي الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ حَتَّى قَالَ بِعَرَفَاتٍ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، فَإِنَّا قَوْمُ سَفَرٍ»، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَيَّامِ أَوْ بِالشُّهُورِ، وَالْمُسَافِرُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ الْمُقَامِ فِي الْمَنَازِلِ أَيَّامًا لِلِاسْتِرَاحَةِ أَوْ لِطَلَبِ الرُّفْقَةِ فَقَدَّرْنَا أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ بِالشُّهُورِ، وَذَلِكَ نِصْفُ شَهْرٍ، وَلِأَنَّ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ فِي مَعْنَى مُدَّةِ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ يُعِيدُ مَا سَقَطَ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَكَمَا يَتَقَدَّرُ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَعْنَى الطُّهْرِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَكَذَلِكَ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلِهَذَا قَدَّرْنَا أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمُقَامِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِقَامَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا قَدَّرْنَا بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ حَوَائِجَهُمْ كَانَتْ تَرْتَفِعُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا لِتَقْدِيرِ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ.
قَالَ: (وَإِذَا قَدِمَ الْكُوفِيُّ مَكَّةَ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يُقِيمَ فِيهَا وَبِمِنًى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ مُسَافِرٌ)؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ مَا يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْإِقَامَةَ ضِدُّ السَّفَرِ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ يَكُونُ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا نِيَّةَ الْإِقَامَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ جَوَّزْنَا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَيُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السَّفَرَ لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّكَ إذَا جَمَعْتَ إقَامَةَ الْمُسَافِرِ الْمَرَاحِلَ رُبَّمَا يَزِيدُ ذَلِكَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَذَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ بِمَكَّةَ وَمِنًى وَالْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ، فَإِنْ كَانَ عَزَمَ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيَالِيِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَخْرُجَ بِالنَّهَارِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ، فَإِنْ دَخَلَ أَوَّلًا الْمَوْضِعَ الَّذِي عَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ فِيهِ بِالنَّهَارِ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَإِنْ دَخَلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ بِاللَّيَالِيِ يَصِيرُ مُقِيمًا ثُمَّ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ إقَامَةِ الرَّجُلِ حَيْثُ يَثْبُتُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إذَا قُلْتَ لِلسُّوقِيِّ: أَيْنَ تَسْكُنُ يَقُولُ: فِي مَحَلَّةِ كَذَا، وَهُوَ بِالنَّهَارِ يَكُونُ فِي السُّوقِ، وَكَانَ سَبَبُ تَفَقُّهِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِطَلَبِ الْحَدِيثِ قَالَ: فَدَخَلْتُ مَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ صَاحِبٍ لِي وَعَزَمْتُ عَلَى الْإِقَامَةِ شَهْرًا فَجَعَلْتُ أُتِمُّ الصَّلَاةَ فَلَقِيَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: أَخْطَأْتَ، فَإِنَّك تَخْرُجُ إلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا رَجَعْتُ مِنْ مِنًى بَدَا لِصَاحِبِي أَنْ يَخْرُجَ وَعَزَمْتُ أَنْ أُصَاحِبَهُ فَجَعَلْتُ أَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَقَالَ لِي صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَخْطَأَتْ، فَإِنَّك مُقِيمٌ بِمَكَّةَ فَمَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا لَا تَكُونُ مُسَافِرًا، فَقُلْتُ: أَخْطَأْتُ فِي مَسْأَلَةٍ فِي مَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَنْفَعْنِي مَا جَمَعْتُ مِنْ الْأَخْبَارِ، فَدَخَلْتُ مَجْلِسَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاشْتَغَلْتُ بِالْفِقْهِ.
قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْإِقَامَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَلَكِنَّهُ مَكَثَ أَيَّامًا فِي الْمِصْرِ وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الْخُرُوجِ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا عِنْدَنَا، وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إذَا زَادَ عَلَى ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً أَتَمَّ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ثَمَانِ عَشَرَةَ لَيْلَةً، وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ السَّفَرَ يَنْعَدِمُ بِالْمُقَامِ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ تَرَكْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِلنَّصِّ، فَبَقِيَ مَا رَوَاهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» وَابْنُ عُمَرَ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَأَنَسٌ أَقَامَ بِنَيْسَابُورَ شَهْرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ أَقَامَ بِخُوَارِزْمَ سِنِينَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ خَلْفَ غَرِيمٍ لَهُ لَمْ يَصِرْ مُسَافِرًا مَا لَمْ يَنْوِ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ، وَإِنْ طَافَ جَمِيعَ الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا مَا لَمْ يَنْوِ الْمُكْثَ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَإِنْ طَالَ مُقَامُهُ اتِّفَاقًا.
قَالَ: (وَإِنْ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ مُسَافِرًا بَعْدَمَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ صَلَّى صَلَاةَ الْمُسَافِرِ عِنْدَنَا)، وَقَالَ ابْنُ شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُقِيمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ خَرَجَ مُسَافِرًا صَلَّى أَرْبَعًا وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ عِنْدَهُمَا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، فَإِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِالسَّفَرِ، وَعِنْدَنَا الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بَيْنَ الْأَدَاءِ، وَالتَّأْخِيرُ وَالْوُجُوبُ يَنْفِي التَّخَيُّرَ، وَالتَّخَيُّرُ يَنْفِي الْوُجُوبَ، وَلَوْ مَاتَ فِي الْوَقْتِ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، فَإِذَا كَانَ مُسَافِرًا فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ عَلَيْهِ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا خَرَجَ مُسَافِرًا وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ يُصَلِّي صَلَاةَ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ الْوَقْتِ مَا دُونَ ذَلِكَ صَلَّى صَلَاةَ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يَسَعُهُ إلَى وَقْتٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: جُزْءٌ مِنْ الْوَقْتِ بِمَنْزِلَةِ جَمِيعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إدْرَاكَ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ وَإِنْ قَلَّ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَوُجُودُ السَّفَرِ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ كَوُجُودِهِ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إلَّا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، فَإِذَا صَارَ مُسَافِرًا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ صَلَّى صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ، فَإِذَا صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُسَافِرًا لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالسَّفَرِ، وَيُعْتَبَرُ جَانِبُ السَّفَرِ بِجَانِبِ الْإِقَامَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ مِصْرَهُ قَبْلَ فَوَاتِ الْوَقْتِ صَلَّى صَلَاةَ الْمُقِيمِينَ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ الْوَقْتِ شَيْئًا يَسِيرًا فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِ السَّفَرِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْإِقَامَةِ إذَا دَخَلَ مِصْرَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إلَى الْغَزَوَاتِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا يُجَدِّدُ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ».
قَالَ: (وَإِذَا قَرُبَ الْمُسَافِرُ مِصْرَهُ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ صَلَّى صَلَاةَ الْمُسَافِرِ مَا لَمْ يَدْخُلْ مِصْرَهُ)؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَلَّى صَلَاةَ السَّفَرِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى بُيُوتِ الْكُوفَةِ حِينَ قَدِمَهَا مِنْ الْبَصْرَةِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لِلْمُسَافِرِ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ مَا لَمْ تَدْخُلْ مَنْزِلَكَ، وَلِأَنَّهُ فِي مَوْضِعٍ لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ إلَيْهِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ مُسَافِرًا فَلَأَنْ يَبْقَى مُسَافِرًا بَعْدَ وُصُولِهِ إلَيْهِ أَوْلَى.
وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ مُسَافِرًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مِصْرِهِ لِحَاجَةٍ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَلَّى صَلَاةَ الْمُقِيمِ فِي انْصِرَافِهِ؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ عَزِيمَةَ السَّفَرِ بِعَزْمِهِ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ وَطَنِهِ دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، فَصَارَ مُقِيمًا مِنْ سَاعَتِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ مَاضٍ عَلَى سَفَرِهِ مَا لَمْ يَدْخُلْ مِصْرَهُ.
قَالَ: (رَجُلٌ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ مُسَافِرًا فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَافْتَتَحَهَا ثُمَّ أَحْدَثَ فَانْفَتَلَ لِيَأْتِيَ مِصْرَهُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ إمَامَهُ مَا صَلَّى، فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي صَلَاةَ الْمُقِيمِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْمُسَافِرِ)؛ لِأَنَّهُ مَنْ عَزَمَ عَلَى الِانْصِرَافِ إلَى أَهْلِهِ فَقَدْ صَارَ مُقِيمًا، وَبَعْدَمَا صَارَ مُقِيمًا فِي صَلَاتِهِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ يَصِحُّ، وَالْمُقِيمُ فِي السَّفِينَةِ إذَا جَرَتْ بِهِ السَّفِينَةُ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ عَمَلٌ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ تَمْنَعُهُ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ، فَأَمَّا الْإِقَامَةُ تَرْكُ السَّفَرِ، وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا تَكَلَّمَ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ أَمَامَهُ عَلَى عَزْمِ السَّفَرِ فَصَارَ مُسَافِرًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ النِّيَّةَ مَتَى تَجَرَّدَتْ عَنْ الْعَمَلِ لَا تَكُونُ مُؤَثِّرَةً، فَإِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَقَدْ اقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِعَمَلِ الْإِقَامَةِ فَصَارَ مُقِيمًا، وَإِذَا نَوَى السَّفَرَ فَقَدْ تَجَرَّدَتْ النِّيَّةُ عَنْ الْعَمَلِ مَا لَمْ يَخْرُجْ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ نَوَى فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ لِلْخِدْمَةِ صَارَ لِلْخِدْمَةِ، وَلَوْ نَوَى فِي عَبْدِ الْخِدْمَةِ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَصِيرُ لَهَا مَا لَمْ يَتَّجِرْ فِيهِ.
قَالَ: (مُسَافِرٌ صَلَّى فِي سَفَرِهِ أَرْبَعًا أَرْبَعًا، فَإِنْ كَانَ قَعَدَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَالْأُخْرَيَانِ تَطَوُّعٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْعُدْ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ عِنْدَنَا)، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُعِيدُ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَكَانَ الْأَرْبَعُ فَرْضًا لَهُ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رُخْصَةٌ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ} فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَرْبَعٌ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الْوَابِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَلَا نَخَافُ شَيْئًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ خِفْتُمْ} فَقَالَ: أَشْكَلَ عَلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ، وَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا كَانَتْ تُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَلَّى بِعَرَفَاتٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَاعْتَبَرَ الصَّلَاةَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّ السَّفَرَ مُؤَثِّرٌ فِيهَا، ثُمَّ الْفِطْرُ رُخْصَةٌ وَمَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ فَكَذَلِكَ الْقَصْرُ فِي الصَّلَاةِ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: فُرِضَتْ الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ، فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ ثُمَّ زِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ عَلَى مَا كَانَتْ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ تَامٌّ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَقَدْ كَفَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ رَكْعَتَانِ، وَسَأَلَهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا كَانَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَالثَّانِي يَقْصُرُ عَنْ حَالِهِمَا، فَقَالَ لِلَّذِي قَصَرَ: أَنْتَ الَّذِي أَكْمَلْتَ، وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَنْتَ قَصَرْتَ، وَلَمَّا صَلَّى عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِعَرَفَاتٍ أَرْبَعًا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ بِكُمْ الطُّرُقُ فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ الْأَرْبَعِ مِثْلُ حَظِّي مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ قَالَ: إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «مَنْ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَإِنْكَارُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَاعْتِذَارُ عُثْمَانَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ إلَّا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَحَبَّ أَنْ يَأْمَنَ عُثْمَانُ غَيْرَهُ؛ لِتَكُونَ إقَامَةُ الصَّلَاةِ عَلَى هَيْئَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَقَامَ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ الْأَعْرَابِ بِعَرَفَاتٍ كَيْلًا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ رَكْعَتَانِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِي سَاقِطٌ عَنْ الْمُسَافِرِ لَا إلَى بَدَلٍ، وَبَقَاءُ الْفَرْضِيَّةِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ أَوْ الْأَدَاءَ فَحِينَ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ الْفَرْضِيَّةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّ الظُّهْرَ فِي حَقِّهِ كَالْفَجْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، ثُمَّ الْمُقِيمُ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا، فَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِالنَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ، وَإِنْ قَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَالْأُخْرَيَانِ تَطَوُّعٌ لَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا وَبِهِ فَارَقَ الصَّوْمَ، فَإِنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَمَّا بَقِيَتْ هُنَاكَ لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ قَضَاءٍ أَوْ أَدَاءً.
وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا مَا قِيلَ: إنَّهَا كَانَتْ تَتَنَقَّلُ مِنْ بَيْتِ بَعْضِ أَوْلَادِهَا إلَى بَيْتِ بَعْضٍ فَلَمْ تَكُنْ مُسَافِرَةً، وَفِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ، وَالْأَمْرُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ التَّجَوُّزُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْأَرْكَانِ عِنْدَ الْخَوْفِ، فَأَمَّا صَلَاةُ الْمُسَافِرِ عَرَفْنَاهُ بِالسُّنَّةِ كَمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ.
قَالَ: (مُسَافِرٌ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ)؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ لَمْ تُصَادِفْ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ فَرْضُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ كَانَ عَائِدًا إلَى حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَيَكُونُ سُجُودُهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَكَمَا يَسْجُدُ بِتَرْكِ الْإِتْمَامِ لِلصَّلَاةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَمَا عَادَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ قَامَ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ حَصَلَتْ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُمَا سَوَاءٌ يَقُومُ فَيُتِمُّ صَلَاتَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ بِالسَّلَامِ لَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ سَهْوٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا.
قَالَ: (مُسَافِرٌ أَمَّ مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا دَخَلَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ سَاعَتئِذٍ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَا يَنْبَغِي لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ)؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْإِمَامِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْجُدَ تِلْكَ السَّجْدَةَ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْأَوَّلِ فَيَبْدَأُ بِمَا كَانَ عَلَى الْإِمَامِ الْأَوَّلِ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَكِنَّهُ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتئِذٍ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ وَرَجَعَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي قَالَ: يَسْجُدُ الثَّالِثُ السَّجْدَةَ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْإِمَامَيْنِ وَيَسْجُدُهَا مَعَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ وَالْقَوْمُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا تِلْكَ الرَّكْعَةَ، فَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ السَّجْدَةُ، وَلَا يَسْجُدُهَا الْإِمَامُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِي تِلْكَ الرَّكْعَةِ فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا فَلَا يَبْدَأُ بِالسَّجْدَةِ مِنْهَا، وَفِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: يَسْجُدُهَا مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُقْتَدِي بِالْإِمَامِ الثَّالِثِ فَيُتَابِعُهُ فِيمَا يَأْتِي بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْسُوبًا مِنْ صَلَاتِهِ، كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السُّجُودِ ثُمَّ سَجَدَ السَّجْدَةَ الْأُخْرَى وَسَجَدَهَا مَعَهُ الْإِمَامُ الثَّانِي وَالْقَوْمُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلُّوا هَذِهِ الرَّكْعَةَ، وَلَا يَسْجُدُهَا مَعَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَلَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ وَانْتَهَى إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ فَحِينَئِذٍ سَجَدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فَيَبْدَأُ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: يُصَلِّي الْإِمَامُ الْأَوَّلُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ الْإِمَامُ الثَّالِثُ وَيَتَأَخَّرُ وَيُقَدِّمُ رَجُلًا قَدْ أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ فَيُسَلِّمُ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ السَّلَامِ بِنَفْسِهِ فَيَسْتَعِينُ بِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَيَسْجُدُونَ مَعَهُ ثُمَّ يَقُومُ الثَّانِي فَيَقْضِي الرَّكْعَةَ الَّتِي سُبِقَ بِهَا بِقِرَاءَةٍ، وَيُكَمِّلُ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فَصْلَيْنِ فِي الْمُقِيمِينَ: